“أحياناً يكون الواقع أشدّ إخافة”
أسطورة شطرنج
يتحدّث الدخلاء الذين هم الآن على أعتابنا بأشياء مضحِكة، أشياء مضحكة لا يمكن أن تُصدَّق، ثم هيَ أشياء مثيرة جدّاً للغضب.
يتحدّثون عنّي وعن شقّـتي وعائلتي، زوجتي وأطفالي، ثمّ يقترحون أشياء داعية إلى السخرية أو الاستغراب أو مستفزّة.
احتلّت مواكبُهم المساحات الفارغة من المحيط، ولم أعد أستطيع رَكن سيارتي إلا بعيداً مِن البناية بعض الشيء، ثم أمشي إلى هنا، ثم تملّكوا البيت العظم المواجِه لنا مباشرة، وأخيراً، وبضربة حظّ واحدة، كمَن يلاعب أسطورة شطرنج، وجدتُهم يملؤون الشقة، وأهلي خارج العمارة، وأنا محشور في زاوية، زاوية ما، في مكان لا أذكر أني أعرفه من هذا البيت.
تقيّأَتْني العمارة التي أقيم في الدور العلوي منها، وتدحرجتُ من درجاتها كأني عصارة تنحدر من مريء مقلوب إلى البلعوم والأنف.
اعتدلتُ واقفاً، وفي البداية أسِفتُ، لكنني تعزّيت بأنّ أسرتي الآن حولي على الأقل، ونحن في موقف واحد، ما عدتُ، على الأقل، محشوراً في زاوية وهم ينتظرون المجهول في العراء.
طفقتُ أفكّر فيما أصنع، طرقتُ الباب بشدّة، باب صاحب البناية الرئيسي، ثم باب الشقق العلوية، ولم يردّ أحد، أجريتُ اتصالات، جاء أناس وسجّلوا شكوايَ ودوّنوا الإحداثيات، ووصلتني رسالة إلكترونية بأنه يحقّ لي أن أعترض، وأن أراجع في مكان كذا وكذا، قسمَ كذا وكذا، ولكنّ حالي لم تكن تحتمل، إذ كنت خاوي الوفاض تقريباً، وليس لي ظهر سوى عائلتي، وليس معنا سوى ملابسنا على أبداننا، وما في جيوبنا، وما تحمله أيدينا من سقَط المتاع، ولا ينتظرنا سوى سيارتنا العائلية المركونة، هناك، بعيداً.
طرأ ببالي أن أحدِث بَلبالاً، فامتطيتُ السيارة بالجميع، وطُفنا بالمتاجر، اشترينا مشتقات نفطية، ومواقد، وأقبلنا على الدار، وعندما قررنا بدء العمل تصدّى لنا شيخ وَقور، ونهانا عن التهوّر، وهدّأ من روعنا، وأتانا بالماء وبعض المثلّجات، وأقعدَنا في تحت مظلة سيارته، ومدّ لنا سلكاً كهربائياً ثخيناً طويلاً، ولم يطلبْ منّا سوى شيء وحيد: أن نصبر حتى صباح الغد.
وراح يترنّم بحداء مفعَمٍ بالأمل.
غربَت الشمس ونحن متحلّقون حوله، وفئام من ناس الحيّ يتحلّقون حولَنا، وأمضى الشيخ ليله في جمع عبوات وقوارير، ولمّا تنفّس الصّباح اقتادنا إلى الباب الخاص بالشقق، صعدناه درجة درجة، وفي يد كل واحد منا مرشّة من هذه المرشّات المُبيدَة، واقتحمنا الشقة، وحميَ الوَطيس، وأبَدناهم جميعاً.
لم يتبخّروا أو يختفوا، ولم يخرجوا من أبوابها، بل تلقّتهم بلاعيم حُفر الحمّامات وأنابيب المغاسل، وانسابوا في مسارب التصريف، وأتبعناهم الأسيد واللعنات، ثم طهّرنا آثارهم بأن أطلقنا العنان لصنابير المياه، فانهمرَت تغسل الأذى وتزيل القذى.
**
إله العبَث
عدد أفراد عائلتي حتى هذه اللحظة ستة، وأنا سابعهم.
بعد سنوات كبر الأولاد، وصار بإمكانهم مجاراتي الحديث.
وقال لي ابني الأكبر الذي طُرّ شاربه: إنّ التقنية قادرة على كلّ شيء.
فقلت: مثل ماذا؟
قال: كل شيء (وكان مؤمناً).
حاولت أن أقنعه بأنها ليست إلهاً؛ فضربَ لي مثالاً بذلك الرجل الذي لعب مع طفلٍ يعبَث، فسلّى نفسه بمجاراته في العبث، وفجأة قال له الطفل: “كش ملك”، وانتهتْ اللعبة.
تجاهلت تحريفه لقصتي الأصلية، وقلت: لكن الفيروسات مضرّة ونفّاذة، كأفاعي الغابات منذ الأزمنة الغابرة، وليست آلهة.
ولكنه كان يرى، وقد بدأ بصري يكلّ، وما عادت قدماي ترسمان له خُطاه.
**
قاطع طريق
سَرْد التفاصيل يطول، لكنّني عُمّرتُ طويلاً، بما يكفي لألاحظ أنا ومن على شاكلتي أن الناس تناقصوا تدريجيّاً، وتكاد الطرق والسبُل تخلو إلا من خليط من الكائنات الذكيّة شبه العاقلة.
وكانوا فئاتٍ وأنواعاً وفصائل، وأحجاماً شتّى، ومن لحم ودم.
بعضهم حلّق بعيداً في الأعلى، أعلى منّا ودونَ طبقات الجو العُلى، وظلّ محتبَساً هناك، لا تمكّنه خفّته من الهبوط إلينا، ولا قوّةَ له على اللحاق بنفايات الفضاء، لكنّه لحسن الحظ ظل يتنفّس، ويعيش بأعجوبة.
وآخرون لصقوا بالأرض، ونبتت لهم حراشف، وهذا الصنف أضحى زاحفاً، ذا بطن لزج، وطوّر قرونَ استشعار شبكيّة.
وفريق ثالث انشغل بالاختراعات الخفيفة، مثل تطويل أعمار البطّاريّات القديمة.
وبقيّتهم هاموا على وجوههم في الأودية والشّعاب، وتخطّفتهم السباع والطير، وقطّاع الطرق.
أصنع الرّصاص في المنزل باستعمال القوالب،
وأعتني بحديقة بيتي، وأربّي الدواجن،
وأضع النظارات الشمسية أحياناً،
وأقطف النعناع من فسحة هذا الفناء،
وعلى رغم تقدّم سنّي، وانحناء ظهري، وضعف بصَري،
إلا أنني أخرج في النهار، في الصباحات الباكرة، وفي رأد الضحى، أو قبيل الغروب، وفي المساءات الهادئة، وأحياناً في أوقات السحَر،
لكي أصطادهم وأنا أترنّم بحُداء الشيخ الوَقور،
أنا الآن، وجميع مَن تبقّى من جيلي القديم، قاطع طريق.
**