السينما فنّ وُلد مع التطور، وفي ذروة التفوق الغربي، وكان يُقصد به أن يكون جزءاً من الملهاة، ومن التسلية، وأن يشبه المسرح، على نحو قريب من روايات السلاسل الطويلة في القرن السادس عشر، غير أن هذا الفن انطلق في بدء أمره من دون صوت، بل بحركات وإيماءات، ومؤثرات، وتعليقات مكتوبة، وكان من ظواهر هذه المرحلة أفلام يعرفها الجميع، كأفلام شارلي شابلن وأضرابها.
وبما أن الثقافة الغربية كانت قوية جداً، والقرن العشرين جاء ثمرة تراكم ثقافي وفني استمر أربعة قرون قبلَه في الغرب، وكانت الرواية الغربية في أوج عطائها، وكذلك العروض المسرحية، وكان ثمة تطور كبير في مدارس الفكر والفنون والثقافة ونظرياتها، لذلك لم تحتمل السينما أن تبقى مركزة في الإلهاء والتسلية، فكان لا بد لها من أن تحذو حذو هذه المسيرة الثقافية المتطورة، فاتجهت في شيء منها إلى تقليد الأوبرا، والاستفادة من التراث الروائي الهائل، ومن مسرحيات الميلودراما والتراجيديا.
لقد كان الجانب الإلهائي في السينما هو المسيطر على شكلها، وكان يصحبه جانب آخر متعلق به، وهو بث الإعلانات التجارية، ونقل أخبار العالم، والتقارير المرئية عن الحروب، التي ترمي إلى نقل تصور الحضارة الغربية ورؤيتها عن الأحداث والحروب والأزمات إلى المشاهدين، الذين كانوا يدفعون المال من أجل أن يخضعوا أنفسهم لهذا الإلهاء والتصوير الذي يُراد رسمه وإشاعته ثم بناؤه عن الحياة والعالم، وهو، في حقيقة الأمر، لا يعدو أن يكون عولمة للرأسمالية العالمية المنتصرة في الحرب الكونية الأولى.
إن السينما الغربية بحمولتها الحالية لا يمكن فصلها عن أصلها، وكذلك كل الفنون، هذه قاعدة، فهي مزيج مستلّ من المسرح الهزلي، ومن الأوبرا، والمسرح اليوناني، وهي في صورتها النهائية جيش من جيوش النفوذ الغربي.
لقد كانت خطة النفوذ الغربي لما بعد الحرب العالمية الثانية هي الآتي: دعنا نتحالف، ونزيح السوفييت، والشيوعية، ونضعف الألمان، ونستتبع آسيا وإفريقية والعالم الثالث، وحتى الآن لا نرى أن الغرب يتنازع من حيث المبدأ على هذه الخطة، إلا فيما يتعلق بآسيا، تنانينِها ونمورها.
أراد الغرب أن يهزم الشموليات المعادية له، فحمل روحاً مضادة لروحها، لأنه لا يستطيع الترويج لإسقاطها بدعوى أنها قاسية وظالمة إلا بأن يدعو هو إلى شيء مضاد، شأنه في ذلك شأن المبشر النصراني حين يريد أن يتحدث عن الديانات الأخرى ويوجد الفرق بين رسالته ورسالتها.
فكانت خطة النفوذ الغربي منذ بدايتها ذات حمولة ثقافية وأخلاقية واجتماعية، ومن هنا ينبغي أن يُتعامل مع السينما على أنها مركز لتصدير القيم، بمعنى: أنها كنيسة أخرى، نعم، إنها هي كنيسة الغرب الجديدة، فهي المنبر الذي يخبرك، كيفما اختلفت الطرائق، كيف تأكل، وكيف تلبس، وكيف تعبر عن عواطفك، وما السلوكيات والحريات المباحة لك؟ كيف تبني اقتصادك، وتكسب أموالك، وكيف تنفقها، وماذا تصنع في أسرتك؟ كيف تسوّغ حروبك، وكيف تخوضها، وكيف تتعامل مع الأمم الأخرى؟ وهي التي تبشرك بأنك صاحب الحقيقة، والموعودُ بالنصر في نهاية المطاف، ومن هنا فإن السينما كنيسة رومانية إمبريالية في صورة فنية، ولا شيء آخر.
إن الفيلم السينمائي الغربي موجِّه أخلاقي (بكسر الجيم)، وليس مثل الرواية في الغرب، ولا الشعر، ولا يعني هذا أن ننكر أثر الرواية الأخلاقي في متلقيها، فهذا أمر مرصود ومدوّن حتى عند نقاد الأدب في القرن السابع عشر الميلادي، وهو موجود الآن رأي العين، لكنّه خفّ يسيراً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأصبح الجانب الإبداعي أغلبَ عند تقدير قيمة الرواية الجمالية والفنية، والشأن أوضح وأكثر جلاء في التشكيل والنحت ونحوهما من الفنون التي أصبحت النظرية الفنية والجمالية هي ما يمهد لها، وما عادت متأثرة جداً بتوجيه القيم الرأسمالية المباشرة بالدرجة الأولى، هذا مع عدم جحدنا أن النظرية الفنية المعاصرة نفسها إنما هي متأثرة بمحيطها الرأسمالي الذي نشأت فيه كذلك، وهي انعكاس آخر عنه، عند النظر إلى الإرهاصات والمآلات.
وإمعاناً في التأكيد نتحدث الآن عن فيلم زيرو دارك ثيرتي، فهذا الفيلم هاجمته صحف عالمية، لأنه أبرز الأمريكيين في صورة من يعذب المعتقلين المتهمين بالضلَع في الإرهاب، ورماهم بأنهم يحتقرون الأمم الأخرى، والطبقات المتدينة فيها والفقيرة، ولأنه أخرج من الظلمة إلى النور الجانب الجدلي في العلاقة بين التحقيق والتعذيب، وبين خدمة الوطن والتجسس على أوطان الآخرين، وبين الانتصار في الحروب وقتل الشعوب، وبين نشر الحريات وفرضها بقوة السلاح.
وخطورة هذا الفيلم (زيرو دارك ثيرتي) تكمن في أنه يعترف بأن حادثة 11/9 كارثية، وبأن من حق الأمريكي أن يطارد ويلاحق مرتكبيها ومَن وراءَهم، لكنه يحاكم طرائق تحقيق ذلك ودوافعه، ويتساءل: هل كان الغرب نظيف الأردان من التلوث بإرهاصات هذه الكارثة؟ أو نائياً عن التمرغ في أوحال الانتهاكات الوحشية بعد وقوعها؟
إن هذه الرسالة، وإن كانت سهلة هينة في أنظارنا، فإنها ليست كذلك في أنظار الأمريكيين، فهي تعني لديهم أن هذا الفيلم يوجه انتقادات وأسئلة وشكوكاً إلى العمق الإنساني في أمريكا، والأمريكيون مستعدون لأي شيء إلا لأن ينفي عنهم منتَج ثقافي أمريكي آدميتَهم وإنسانيتهم ويشككهم فيها، نعم: قد يتقبلون ذلك في إطار طرح عدميّ أو مثاليّ أو نفسي، لكن لا يتقبلونه في إطار دحض جذري، ذلك لأن تلك هي أهم ورقة في الفلسفة البراغماتية المعاصرة، التي يحاولون أن يسوّغوا بها أفعالهم لأنفسهم، أمام أنفسهم، وأمام الكون، بل وأمام الله تعالى؛ ومن أجل هذا كان حتماً أن يهاجم بعض المثقفين الأمريكيين هذا الفيلم نفسه ويشككوا فيه؛ وهذا الأمر مما يؤكد أن الأفلام الأمريكية حمولة اجتماعية وثقافية وتربوية وأخلاقية، لا فرق بينها وبين خطب الكنيسة الأحَدية، فكما يتجه المرء منذ حقب سحيقة إلى الكنيسة في الغرب، فإنه سيظل يتجه إلى السينما، سواءٌ أكانت خارج داره أم داخلها، كلما هبط المساء في عطلة نهاية الأسبوع، وسيظل كذلك ما دامت هذه الأنماط من أساليب توجيه الحياة قائمة شاهدة في عصرنا.
الفيلم السينمائي، كائناً ما كان، يبعث نجواه في هيئة مظاهر، وهذه المظاهر يعتمد أسلوبُ إبرازها على تفاصيل عدة، منها: المنظر الخارجي، والألوان، وجودة الصورة، والصوت، والموسيقى، ومنها الفضاءات الضيقة أو الواسعة، وهل المشاهد فيه مريحة للعين أو مزعجة لها، وطريقة التقاط الصورة، ونوع الكاميرا، وهل هي محمولة أو مثبتة، أو منخفضة أو متوسطة الارتفاع أو عالية، ومنها منهجية قطع المَشاهد، ومقدار طول اللقطات أو قِصَرها.
ومع أن التقنيات المذكورة هي الطرائق التي تَدفَع بها أرحام السينما أجنّتها إلى الوجود، فإن جميع ذلك يخرج من صلب أُسٍّ أساسٍ، هو النص المكتوب الذي بُني عليه الفيلم نفسه، وفكرته، والحوار، والأداء العام، والإخراج؛ وبهذا يتجلى أن السينما فن متعدد المكونات، وتتكامل هذه المكونات فيه فيصبح أو يمسي فيلماً سينمائيا مستوي الخلقة، غير جهيض ولا خديج، ومن هنا فنحن نعجز عن مقارنة السينما مقارنة دقيقة بالفن المكتوب.
يبدو لنا، من هذه الفرضية، أن السينما التي قدّرْنا أنها فن موجِّه – وهذا أعظم عيوبها وأكبر مخاطرها – هي أصعب الفنون مع ذلك، وهذا يسلّط الضوء على ظاهرة أخرى محيرة جداً في عالمها؛ إذ إن أكثر من يعملون في هذا الفن أناس ساقطون ومنحرفون وأصحاب شذوذات وشهوات غاوية وعقول خاوية، لكن واقع الغرب الحضاري أجبرَهم على أن يجسّدوا في خاتمة المطاف فناً ثقافياً يستطيع أن يخاطب الجمهور الغربي ويؤثر فيه.
نعود لنقول، كما أسلفنا، إن الفيلم الغربي بخاصة منتج ثقافي وخطبة من طريق الحكاية بمؤثراتها العديدة، لا فرق بينها وبين المسرحية التي كان يقدمها شكسبير للملوك، بل هو خطبة اجتماعية حضارية ثقافية، ولذلك فإن الأفلام مراقَبة جداً في الغرب، والأحبال غير مرخاة لها على سجيّتها كما قد يخيّل إلى من لم يقلّب النظر في الأمر طويلاً، وقد احتضنتها الإعلانات والمبيعات والجوائز والمقالات النقدية والتقارير التلفزيونية، ونعود لنذكّر بأنْ ليست أفلام الإثارة والتشويق والحركة المجرّدة هي المقصودة في هذا السياق الذي نتحدث فيه عن الفيلم الغربي الذي يحمل رسائل قيمية، بل المقصود هو أن الفيلم كلما اشتمل على رسالة سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية فهو ذو خطورة، بمثابة خطورة خطبة الجمعة في الأحياء المسلِمة، ولتقريب المسألة: عندما يرتكب الشبّان في أحد الأحياء تجاوزات مثل: التفحيط، أو رفع أصوات مسجلات السيارات، فإن الحيّ قد لا يلتفت إلى ذلك، لكن خطيب الجمعة لو ألقى كلمة على المنبر يحاول فيها ضرب بعض أعراف المجتمع الجديدة فسوف تثور عليه طائفة، وسوف يكون أولئك الشبان العابثون من أوائل من سيقفون في وجهه، فالفيلم له خطر ذلك الخطيب، وتأثير تلك الخطبة.
ويبقى أن نقول: إننا نستطيع الاستعانة بالأفلام في رصد التحولات الثقافية والاجتماعية في المجتمع الغربي، وذلك بالعودة إلى الأفلام أو النصوص الروائية التي سبق أن تطرقت إلى الموضوع الذي تناوله هذا الفيلم الجديد، وسنرى هذه التحولات جليّة عند المقارنة بين الصورة التي كانت تقدمها تلك المنتجات الثقافية القديمة عنها، وبين هذه الصورة الحديثة الماثلة أمامنا.
إن كل فيلم يشتهر في الغرب ويحظى بالحفاوة، فلا شك أنه يعزّز قيماً غربيّة يُراد لها الانتشار، ولا شك أنه مشهد من مشاهد من صراع القيم والتحولات داخل الغرب، ومن أجل هذا فإن من الخطأ أن نتعامل مع الفيلم الغربي وكأنه يتحدث عنا نحن، أو أنه يخاطبنا نحن، بل إن هذا من الخطأ الفاحش؛ لأن ذلك يعني ترحيل وقتنا ومكاننا وثقافتنا إلى منتج ثقافي مغاير، يكون زماننا ومكاننا وثقافتنا أشباحاً مغتربة فيه، ذلك أن تهجير الإنسان نفسه إلى الثقافة الأخرى لا يجعله مستوطناً فيها ولا مهاجراً إليها، بل يدمغه بالاغتراب فيها، وهذا الاغتراب يغرس انفصاماً حاداً فيمن يقحم نفسه فيه، وسبب ذلك أن المغترب لم يصل إلى هذه الثقافة الأجنبية وصولاً طبيعياً، ولا هو يستطيع التخلص تخلصاً كاملاً من ثقافته الأولى لأنها ثقافة أصيلة وقوية، فيُحدث ذلك الاغتراب في هذا الشبح الممحوّ انشطاراً ثقافياً وانهزامية تامة، ويسقط في الوحل الذي سقطت فيه أمريكا اللاتينية وكوريا الجنوبية وغيرها، ليخرج من هذا الاغتراب بذات لا تدري إلا أنها لا تدري في الحقيقة ما هي، ولا من هي، ولا ماذا تريد.