اتفقت أنا ومنير على أن نكتب قصة أخيرة.
كلانا يعلم أن الوقت المتبقي لنا ليس كافياً، والمسافة بيننا شاسعة، وأبراج الاتصال ضعيفة الإرسال في هذا الموضع من الساحل الغربي.
كلانا يعلم أيضاً أن هذا النوع من القصص ينبغي أن يكون متقشفاً، لا نزعة رثائية فيه، ولا حنين؛ فالأشخاص المشغولون بكمالياتهم في هذا العالم لا وقت لديهم لقراءة النوستالجيا ولا لالتقاط الإشارات.
قلت لمنير:
- مشكلة كتابة النصوص هي: أن اللاءات تسبق إليك كل ما سواها، وهذا يحتاج إلى قوّة وتركيز قد لا نتمتّع بهما في هذه الساعة.
قال:
- لا جدوى من محاولة تحديث الاتصال، وواصِل الكتابة بأول خط يظهر أمامك في مستطيل الوورد الأبيض غير النهائي.
قلت له:
- فما الأخطاء التي يجدر بنا تلافيها في هذه اللحظات، لا تستعجل، فكّر قليلاً، وكن وقوراً.
قال:
- لا تذكر شيئاً عن متاعبك الصحيّة، لا عن الكحة الجافة، ولا عن رئتيك، ولا الخدر، ولا التنمل الذي يدب في أطرافك، ولا رؤيا الطفولة التي غمرتك هذا الصباح وأنت على وشك الاستيقاظ.
قلت: الذكرى الأولى لتذوقي طعم الموز أول مرة، أمام مدرستي الابتدائية، في صباح بارد منعش، كنت ألتقط أنفاس الشهيق آنذاك بعُمق.
قاطعني: هذا بالضبط ما يجب الحذر منه.
قلت: خيالي كليل.
جاء صوته متقطعاً، كما لو أنه إذاعة نائية تعاني محاولة التخلص إلى أذنيّ من تشويش راديو عمّتي.
هكذا فكّرت، فبادرني مستدركاً:
- ولا تتحدث عن مذياع عمتك، إيّاك.
قلت: هل تذكر فيلم برغمان، ذاك؟
قال، وعلمت أنه يبتسم رغم البُعد ما بيننا، :
- الموت يقطع جذع الشجرة التي أوى الممثل إلى فرعها.
- يطالب الممثل بوقت يسير ليؤدي بعض الأدوار المتبقية له.
- يواصل الموت نشر الجذع وهو يقول له: لم يبق لديك وقت.
قلت:
- نكتب إذن عن ليلة حرَض.
- تلك الليلة استثنائية، ليلة مباراة البرازيل.
- نعم، أخذنا الرجل لنكويه لدى طبيب شعبي.
- وادعى المعالج أنه عائد من السماء الرابعة.
- أضعنا الطريق مرات في الذهاب وفي العودة.
قال:
- هذه أيضاً لا تصلح للكتابة.
- لكنها جرَت لنا.
- قلت لك إنها لا تصلح للكتابة، رغم أنها وقعَت فعلاً؛ فلن تبدو إلا كاختلاق مبتذل لا عمق فيه، ولن يصدّقها أحد.
- سيصدقها أهل الخرج، والتوضحية، وحرض، والمنطقة كلها.
اتفقت أنا ومنير على أن نكتب قصة أخيرة
تنهّد منير، وساد بيننا صمت عرفنا معناه جيداً، معرفة المرة الأولى، والمرة الأخيرة، والمرة القاطعة، في المرّة نفسِها.
قال:
- أضعنا اللحظة الأخيرة المتاحة لنا في تقليب الماضي.
قلت:
- وفي الخشية من الوقوع في الأخطاء.
لم يجد ما يضيفه؛ فقال:
- نعم.
وابتسمتُ كما ابتسم منير من قَبل، وشعرت بالارتياح لتساقط كل الأثقال والأحمال عني، حتى ما عدت أستحضر إلا صورة بائع موز أمام مدرسة الإمام الشافعي، أو صوت راديو تتحشرج تردداته بين يدي قريبتي، أو لسعات معالج يكوي شخصاً من سائر الأشخاص.
وقلت لمنير في نفسي:
ما الذي كنت تتوقع أن يحدث غير ما حدَث؛ لقد كنا نحاول كتابة قصة عبر اتصال مشوّش، في أثناء تهاوي كل شيء من حولنا.
قال معترضاً:
- لا…
لم يكمل جملته، وانقطع الخط، في الوقت المناسب، بلا وداع.
امتدّ أمام عينيّ، رغم الأبنية والشوارع، فضاءٌ غير نهائي، كالبحر الرقراق.
والشيء الجيد هو أنني لم أكن أبالي.
نعم، ثمة ألم وإعياء يُسلمني إلى النعاس، لكن لا أرق، ولا غضب، ولا حزن، ولا لهفة، ولا شهوة، ولا نشوة، ولا أي شعور سيئ آخر.
وبالطبع، لم أر شيئاً مما هنالك؛ لأنني كنت لا أزال هنا.