عرجت في إحدى مقالاتي المنشورة في الصحافة المحلية على طريقتين من طرائق إدراج الصدفة في الرواية العالمية، والموعد اليوم مع رواية محلّية هي “فخاخ الرائحة”، للأستاذ يوسف المحيميد.
جاءت التجربة في هذه الرواية موشّاة الحوافّ بفكرة جديدة، لكن يلاحظ عليها تقنياً أن الثيمة الحقيقية التي توحّد الحدَث فيها هي: المصادفات.
المصادفة الأولى: مصادفة الرائحة التي جعلتها الرواية قاسماً مشتركاً بين الأبطال، وقد تدخّل قلم الكاتب في لفت وعي القارئ بها.
المصادفة الثانية:
مصادفة العثور على الملفّ الخاص بالطفل اللقيط، والطفل الذي عرفته شخصية أخرى بالصدفة أيضاً.
وتتلخص هذه الصدفة الكبرى في أنّ البطل (طراد) قرأ الملفّ ليجد في أضابيره (من طريق الصدفة وحدها) معلومات عفويّة سُجلت في شكل مذكّرات، وجعَلته قراءتها يعرف علاقة اللقيط بصديقه السوداني (توفيق).
وهذه هي الطريقة التي حصل بها طراد على الملفّ: “هم بالانصراف لولا أن دعاه الرجل العجوز، فاستدار نحوه ليلوح له العجوز بملف أخضر، لم ينتبه له لحظة جلوسه قبل قليل: نسيت ملفك، تناوله طراد مُدارياً اضطراباً تأرجح بين عينيه الجاحظتين قليلاً دون أن يُحرج العجوز بأن ينفي علاقته بالملف”.
المصادفة الثالثة: مصادفة عثور توفيق على صديقه القديم (أبو لوزة)، وهذا هو الاسم المعروف لطراد، أي حارس القصر الذي كان يسكنه توفيق، وجاءت الرواية لتقول: إنه لم يعرف الرجل مباشرة إلا بعد أن تكلّم وظل يحدق فيه حيناً.
المصادفة الرابعة: الصدفة التي مكّنت طراد من رؤية اللقيط ناصر، وهي: أن ناصر رأى الملف بين يديه فاختطفه وهرب به، فأتيح للبطل أن يراه رؤية خاطفة تمكّنه من التحرر من هذا الهاجس على الأقل!
إننا نسلّم بأنّ خلق حبكة يكون الرابط بين أبطالها الرائحة فكرة جيّدة ومبتكرة. ولكن تحققها فنياً في الواقع الأدبي يحتاج إلى بناء مجموعة من الأحداث التي يمكنها أن تكوّن أرضيّة معقولة لرواية تنطلق بنا في أفق الخيال، بحيث تكون قيمة الخيال هنا في صنع فن يمكن الإقناع بإمكان حدوثه، وإنَّ اضطرار الكاتب إلى جعل أرضيّة الحدث التي تنطلق منه صدفة يُعد مأخذاً.
إننا نسلّم بأنّ خلق حبكة يكون الرابط بين أبطالها الرائحة فكرة جيّدة ومبتكرة. ولكن تحققها فنياً في الواقع الأدبي يحتاج إلى بناء مجموعة من الأحداث التي يمكنها أن تكوّن أرضيّة معقولة لرواية تنطلق بنا في أفق الخيال
ربّما كان أجمل للرواية ألاّ يُربط أبطالُها بأي حدَث، لكي نتجنب بذلك فخ الوقوع في مصادفة حتمية. والبديل المناسب لذلك من وجهة نظري هو أن يكتفي الكاتب بجعل وعي الراوي العلوي واطلاعه على خبايا شخصياته هو الصلة الوحيدة بينها، من دون أن يضطر إلى الربط بينها قسرياً على ف لو لم يربط بين أبطاله بأي صلة حدث،واكتفى بأن يكون وعي الراوي واقع الرواية المفترض، وذلك لأن وعي الراوي وحده يكفي ليكون وحدة للحدث ولأن يكون هو المسوغ الجوهري لقبول القارئ بالترابط الواقعي؛ وذلك دون شك أقرب إلى القبول من جعل المصادفة هي المسوّغ الوحيد الذي يجمع بين أبطال هذه الرواية.
وثمة ملحوظة أخرى تشيع في كثير من الروايات المحلية والعربية، وهي: عدم التناسب بين لغة الأبطال وثقافتهم وبين الخطاب الذي تقدمه الروايات على ألسنتهم، سواء أكان ذلك في الحديث الداخلي مع النفس، أم في الحوارات المباشرة بين الأبطال؛ ولذلك يعنّ لنا كثيراً في هذه الروايات ورود أبطال من الطبقة غير المثقّفة، لكنهم يلهجون بعبارات أدبية وفلسفية.
فطراد (البدوي شبه الأميّ الذي عاش قبل أربعين سنة في البراري قاطعاً للطريق) يستخدم في رواية فخاخ الرائحة عبارات مثل:
“لعنةُ المدينة التي لا تختلف عن الجحيمِ”، “قمت واندفعت صوب الذي يطوح بشماغي مثل رعاة البقر الأمريكيين”، “ووضعوا لك حياة متخيلة تشبه حياة أبطال السينما أو الروايات الخياليّة، حتى الاسم لم يكن مثل أسماء الناس في هذه المدينة الجحيم”، “يتمدد اسمي مثل طريق موحش لا آخر له، مثل دهليز مظلم لا ترى فيه شيئا حتى ولا يدك، اسم لا يحمل في نهايته ألف لام التعريف اللعينة، مثل العائلات المعروفة في هذه البلاد”.
إننا لا نعترض على اللغة السائدة في النصّ ما ظلّت في نطاق عرض الانطباعات ولم تتجاوز، في ترجمتها الأفكار، حاجز الثقافة التي يستحيل للشخصية اكتسابها، وإن الكاتب إذا بهرَجَ خلجات أبطاله ومنحها مستوى فلسفيّا أو نفسيّا غير وارد عليها، فما جدوى تعمّقه في عرضها.