أعتقد أن الجميع لا يعارض مقولة: “إن تاريخ مدينة جدة يعود على ثلاثة آلاف عام من الآن، قبل أن تأتي قبيلة (قضاعة) بعد خمسمائة سنة من ذلك التاريخ، لكي تشارك بعض الصيادين البدائيين السكنى، فوق رمال شواطئها القاحلة، إلى زمن البعثة النبوية، ويقال إن اسمها الحالي يعود إلى (جدة) بن جرم بن ريان بن حلوان بن عمران بن إسحاق بن قضاعة، ويعود نسبهم إلى الجد التاسع لرسول الله (صلى الله عليه وسلم). هذا الكلام لا يتعلق بغرض القصة؛ ولكن أوردنا الرواية الرسمية على ذمة موقع أمانة جدة الإلكتروني.
روايتي ليست رسمية، فلا تدين ولا تدان، تحكي عن أحوال خاطفة مستقاة من يومياتي غير القابلة للتدوين سابقاً. كلنا يعلم بلا شك؛ أن مدينة (جدة) أكبر ميناء على الجهة الشرقية لساحل البحر الأحمر، وأن عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، وأيضاً ثلاثة ملايين بدون وثائق رسمية، وثلاثة ملايين آخرين؛ لا يمكننا رؤيتهم بالعين المجردة. فهي مدينة تشتهر بـ(كوزمبوليتانيتها)، ودورها المتفاعل والمرحب بكل الثقافات الشرقية والإفريقية، ولا أخفيكم أن المصطلح أعلاه سبب لي وعكة نفسية. لقد بدأت (كوزمبلانيتي) بالظهور في شمال جدة (قبل عامين) وإلى تاريخ نشر هذا الكلام السردي، أمضمن لكم أنه لم يتغير شيء في حي (السلامة) حتى الآن!.
ففي زاوية يحدها (شارع قريش) من جهة الجنوب، وشارع متفرع صغير جهة الغرب، تقابلني كل صباح مظاهر (سوق الروائح الآسيوية) – كما أسميه -، فهو بدون اسم محدد وقد يكون له اسم لا أعرفه، الأكيد أنه لا يحتاج إلى بناء طابق ثان، فبالرغم من وجود محلات مستأجرة، سترى أيضاً محلات شاغرة أغلقت بسواتر الحديد العازل تبدو مهجورة أو مخازن صغيرة للبضائع، الغريب في الأمر أنه عندما يأتي (الليل) يمكنك سماع بعض الهمسات!، أو شخير العمال المتعبين داخلها!. وكأنها أُجرت للسكن المؤقت! يبدو الطابق الثاني لمبنى (سوق الروائح الآسيوية) موزعا في شقق صغيرة مفتوحة على هواء السطوح المنعش، حيث تسكنه عائلات مضطربة في الدخول والخروج، ومن خصائص أهالي تلك الشقق الركوب مع سيارات أجرة محددة سلفاً، هذا ما بدا لي والله العالم!!.
أما المحلات التجارية التي تدب بالحركة والنشاط، فهي كما أتذكر؛ لبيع أشرطة الفيديو، وبطاقات فك الشفرة، وأيضا دكاكين ملونة بالحرير المقلد، لا يمانع أصحابها إذا اعترتك رغبة دفينة بتلمس الأقمشة الهندية، وتحسس طبيعة حضور ملمسها في وجدانك، حين تتأمل باستغراق عاطفة ألوانها الزاهية بالأحمر القاني والأصفر الفاقع، وقد طُرزت برقائق تلمع، وخرز مشغول، بمهارة الحياكة الآلية المتعولمة بخجل، حيث يمكن لأصحاب السوق إقناعك بشراء (ساري) بثمن عشرة ريالات.
ستجد في ذاك السوق بعض المشاغل لحياكة وتفصيل الملابس الرخيصة، وحوانيت تقدم للزبون بضائع مختلفاً ألوانها بدءا من (التمبول) حتى النارجيل الطبيعي. (التمبول مادة تكييف) لرؤوس الجالية الهندية جربته من باب الفضول وندمت. ستجد عند البقالين، نباتات وأطعمة غريبة؛ مثلاً: حلقات (موز) مقلية ومجففة وبعض الأغذية الإقليمية الخاصة والمجهولة في أقاليم الهند المختلفة، سوف ترى أربع محلات بقالة، ولكل بقال زبائن تختلف سحنتهم، كلهم يحملون نفس الجنسية، والعصبيات الإقليمية في صدورهم ونبرات صوتهم!. وفي كل محل تعرض نباتات ومعلبات مختلفة، وسوف تقرأ على ورقة محتويات عبارة (صنع في الهند).
بعيداً عن الركن الهندي، في ناحية قصية عن المبنى، يوجد مطعم رخيص بالنسبة إلينا، يقدم الأكلات الجاوية، تصدر منه رائحة جهورية، تفرض على الجو المحيط تميزاً لهوية تختلف جداً، تشارك الجميع مبدأ الاختلاف؛ بقوة هيمنتها على حاسة الشم؛ وكم تأخذني تلك الروائح إلى بلاد (الواق واق)، وحكاية شعوب ما وراء المحيط، وأتذكر بأسف خرافات الغزو، والبثور الدموية في تأريخ أسلافنا العرب الذين حمّلوا الإسلام العنجهية القرشية الطاغية، بدون أسباب مقنعة دائماً، تبرر خوض الحروب باسم الجهاد، إندونيسيا أسلمت بالمجان!. ومنهم جماعات تمتلك حوانيت متفرقة للعطارة يديرها أطفال يأخذون التعليمات من كهول متشبعين بالرطوبة، كأنهم أشباح يتلصصون من وراء ملصقات رقشت بحروف من لغة أخرى على القوارير وأكياس المساحيق الغريبة الملونة بروائح القرى والدروب البعيدة وراء المحيطات، وترى أشياء صغيرة لا تعرف بالضبط أين مصدرها، وما هو نوع مادتها؟! هل استخرت من باطن الأرض؟ أو نبتت في بلاده؟ أو مجرد عظايا وسحالي عولجت بالشعوذة!!، أذكر الكهل الجاوي ذا الكرش العظيمة والرأس الصغير، حين تتحرك شواربه المتباعدة فوق شفتيه بوقار، يغمغم بنبرات الحكمة، نحو صبي لا أستطيع تحديد عمره، هل هو طفل صغير؟ أو شاب قصير؟ ولكنه نشيط وحاذق يستجيب لهمهمات ونخرات الكهل الضيقة، فتبدو كأنها أوامر أو نصائح؛ ربما؟!!
ترى أشياء صغيرة لا تعرف بالضبط أين مصدرها، وما هو نوع مادتها؟! هل استخرت من باطن الأرض؟ أو نبتت في بلاده؟ أو مجرد عظايا وسحالي عولجت بالشعوذة!
في الزاوية الآنفة الذكر؛ المقابلة لـ(سوق الروائح الآسيوية)، يمكنني تجديد ذاكرة أنفي، بصنوف مختلفة من (الأعراق) الآدمية، وهم حسب الكثافة: الهندي، البنغالي، الباكستاني، الجاوي (الإندونيسي)، وبعض الفلبينيين المسالمين جداً ذوي الابتسامات التي لا تنقطع للمارة.
عمال الجاليات الآسيوية يتشاركون الصباحيات المستعجلة، أو بعض الأمسيات المتعبة من أيام الكسب لتصدير لقمة العيش. لكي أكتشف أن المكان عتيق ببضائعه ومرتاديه فقط! لأن المباني المحيطة أغلبها مساكن فخمة من طوابق فاخرة. وعمارات سامقة تركن بالقرب من أبوابها الرخامية سيارات نظيفة وأنيقة وحراس يعانون من الضجر، يجلسون فوق الأرصفة يراقبون حركة الخادمات والأطفال باهتمام الملوك.
أمام السوق عندما يحل المساء، وتبدأ الأفواه بالتكاثر ونشر الضجيج، تظهر فئة معروفة بسيماها، لا تكل ولا تمل من الوقوف على الأرصفة. ولكن مع الصباح الباكر أجد المكان وقد ازدحم، فأبتعد عنه قليلاً أقف في زاوية بعيدة قليلاً عن السوق. إذا صدقتموني سأحكي عن ذوي اللحى الكثة، والرائحة الصارخة، حاملي الجنسية الباكستانية، والأفغانية، وحاملي أدوات البناء والسباكة فوق العضات، المهيأة للأعمال الشاقة.
لأنهم مع الفجر قبل بزوغ الشمس، يحومون على فرن (الخير الباكستاني) اللذيذ. يشترون الخبز من صاحب التنور، ذاك الرج الخباز، الذي يلبس قميصه الغامق دوماً، أعرفه جيداً لأنني أرى تحت إبطه، جزيرة من العرق بشواطئ تكلست بالملح البشري، رسمت في نسيج الرداء مؤشرات بيضاء عن جهد الأيام السابقة، يحرك ذراعيه باستمرار، يسحب العصا بقوة كي تنزلق العجائن إلى مصيرها، أمام الشعلة المنضجة، فتصبح العجائن أرغفة في لحظات متعرقة، وهو يعمل على إخراج الأرغفة بلوح آخر ينتهي بصفيحة من رقاق المعدن، مليئة بالسخام طولا حوالي ذراع، يرميها بحركة لولبية فتنزلق بمهارة واعتياد تحت الأرغفة الناضجة، لتعود إلى دكة الانتظار، يرمي نحونا الخبز النافث بالحرارة، رجل التنور يقبض القروش على عجل، يضعها بدون التفات في (علبة سمن فارغة). أحياناً يقلب الخبزة فإذا وجدها محترقة قليلاً اتهم كفاءته في عجن الدقيق، وعاقب الرغيف ليكون علفاً للحيوانات، وكم تراودني رغبة أن أبوح له بسر الخبز. ولكن قد يتهمني بشيء من البلادة!، ولو يعلم أن أحلى مذاق أجده في طعم الخبز هو الذي في شوال الخبز المحترق!، ولو أطلب منه أن يحرق لي رغيفاً فلن يكون بمذاق الاحتراق العشوائي داخل التنور. إنها معادلة حظ لا أكثر. أو نسبة قضاء وقدر! خبزي المحظوظ هو الذي يلقيه الخباز بين الأرغفة الناضجة، يتركه بين ضمير حي يراوده على كيس العلف، أو تجاهل مقصود ولئيم، وكأنه نسيه؛ أو لم ينتبه لحالته، المقرمشة، لعل أحدهم يأخذ الرغيف بدون تقليب ومعاينة.
إنه يبيع الخبزة الواحدة بربع ريال، وربع إضافي ثمناً لقبضة من (السكر) توضع فوق الرغيف قبل دخوله للفرن، لكي يتلذذ الزبون بغمس الرغيف بالنصف الباقي من الريال، الذي يتحول إلى كأس حليب مطبوخ بالشاي على الطريقة الباكستانية التقليدية، الخالية من هراء واشتراطات الصحة والنظافة المتعجرفة.
أجيء صباحاً لشراء خبزة وحيدة أشطرها نصفين، نصف أحمله معي (لستار بوكس) أو مقهى نادي القهوة الفاخر على طريق (صاري)، أطلب حليبا بالشاي معقما ونظيفا. وإذا كان صباحي موصولاً بليلتي. أغمس رغيفي في كأس له ضمير آخر ومستتر!. حيث أجلس في مكان مكشوف على رصيف المدينة البحري، أسمع تجشؤات البحر المخنوق بين قارتين، النصف الآخر من الرغيف المقرمش، أتركه لصديق وهمي على مقعد السيارة!.
أحتاج إلى خاتمة جميلة لهذه القصة، طيب، ماذا لو قلت إن الزاوية من شارع (قريش) القبيحة ليلاً، تضحي من أجمل الأماكن في الضحى، وكأن الجمال يأتيها ليغسل آثار خطواتي الآثمة. فهناك في شقق الطابق الثاني في مبنى سوق الروائح الآسيوية، من يهتم بهذا الجمال، وضع دلواً مليئاً بالماء، ونثيراً متفرقاً من الحبوب وكسر الخبز المحترقة، غطى الإسفلت بنثارها، في مساحة تقدر بألف وخمسمائة حمامة، عندما تعبر دراجة أو سيارة على الشارع، أجدني في غيمة من أزيز الأجنحة الواثقة من الهواء، أحلق معها بروحي حتى تؤوب، تجمع كل ضحى على مأدبة إنسان يحب هذه الطيور الأسطورية، أو يقدسها ويتبرك بوجودها، أو هاجس خرافة تعيش كفيروس كامن بوجدان أحدهم تحتاج لمن يكشف سرها… أجمل ما في الأمر حين أغادر المكان، متأبطاً خبزة ناشفة، ومجموعة من الاحتمالات؛ حول سر الحمام!.