وحكى الدكتور أنه وجد كتاباً نادراً اسمه أمير الشعر في العصر القديم، لمؤلفه الشاب – آنذاك – محمد صالح سمك، وفيه مقدمة للرافعي، اشترى الكتاب من أجلها بـ300 ريال، لأنها تؤيد تعليله، إذ يصف فيها الرافعي امرأ القيس بأنه مصنع للغة، والشعراء ينسجون على منواله. وألفت نظر الدكتور إلى أن الـ300، وإن كانت في محلها، فإن المقدمة ليست نادرة، بل هي في الجزء الثالث من وحي قلم الرافعي.
وأنبّه الدكتور كذلك، إلى أن الرافعي عدّ امرأ القيس مصنعاً للغة في سياق وصفه بـ«التوليد»، الذي يفسّره بأنه «الإحساس الحي للمعاني»، وبسببه كتب أحد ردوده العنيفة على العقاد، وأرى الرافعي هنا وكأنه يستظهر قول الآمدي في كتاب الموازنة: «… فضل امرؤ القيس، لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية والإسلام… ولولا لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره، ولكان كسائر الشعراء من أهل زمانه، إذ ليست له فصاحة توصف بالزيادة على فصاحتهم ولا لألفاظه من الجزالة والقوة ما ليس لألفاظهم…». ثم تحدث بمثل كلام الدكتور عن صورة «قيد الأوابد».
أقول: فلعل اللبس إنما جاء من مزج الرافعي في مقدمته بين المفهوم المعنوي الذي قرره الآمدي ومفهوم صناعة اللغة، الذي قد يوهم بأنه أراد مسألة التركيب خاصة.
وعلى رغم قول الآمدي، فإنني أتفق مع الدكتور على أن التراكيب واللغة هي سر امرئ القيس، لا هذه المعاني والاستعارات فحسب، وكأنما كان الجرجاني مؤيّداً للدكتور على الآمدي بانتقاده لهذا المذهب في كتابه دلائل الإعجاز، إذ يقول: «فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة وأدباً واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر، فإن مال إلى اللفظ شيئاً ورأى أن ينحله بعض الفضيلة لم يعرف غير الاستعارة…».
غير أن ما يجعلني أهنئ الدكتور بالكتاب، أنه ربما كان من أول الكتب المعاصرة التي نبّهت إلى تحامل الباقلاني على معلقة امرئ القيس، بل وربما اقتفاه أبوفهر في مقدمته لكتاب الظاهرة القرآنية، ثم أبوموسى في كتاب الإعجاز البلاغي. وعندما أتأمل ما كتبه المؤلف الشاب سمك في اقتفاء الباقلاني ونقده وتعقّبه، أميل إلى أن للرافعي لمسات جليلة عليه، فهو يبوح في رسائله لأبي رية بأنه يفعل هذا، وكذلك روى عنه العريان في كتابه، في فصل المقالات المنحولة، بل إنه، كما نقل مصطفى البدري عن أبي رية نفسه، أجرى لمساته على مقالة للعقاد نفسه، قبل أن يختلفا، وحسبك بقول الرافعي لأبي رية: «وهنا أشياء أخرى لا أريد أن أبوح بها، ولكنها في الجملة أشياء أساعد بها رفداً، فينتحلها أهلها وينشرونها بأسمائهم، وأنا بذلك راضٍ مسرور». فهذا ما يجعلني أقول للدكتور إن هذه الـ300 في كتاب محمد صالح سمك مباركة إن شاء الله.